مجتمع المعرفة وظهور ذهنية إنسان جديد
الدكتور المصطفى حدية
يشهد المجتمع العالمي اليوم تحولات عميقة في مختلف المجالات، نتيجة التقدم الهائل في البحث العلمي وما ترتب عنه من تطبيقات تكنولوجية هائلة، تأكد معها الدور الكبير للعلم والتكنولوجيا في إنتاج ثروات الإنسانية وتعزيزها في مختلف مناحي الحياة المجتمعية. فالسمة المميزة للأزمنة الحديثة هي أن البحث العلمي مؤتلف مع التكنولوجيا التجريبية أديا بلا شك إلى تنوع هائل في المنتجات، وإلى تغيرات هامة في كل من أساليب الإنتاج، والعادات الاستهلاكية، والقيم والمعايير والسلوكيات، الخ. كما أن فهم الإنسان للكون ولذاته و لعلاقاته برفاقه من بني البشر قد شهد دفعات من التقدم لم يسبق لها مثيل.
تحول مس في العمق نوعية وطبيعة القيم والقواعد التي كانت تشكل الخلفية المرجعية والنموذج المتوخى تحقيقه في مجال تربية وتنشئة الأطفال و الشباب. إن المسألة في الواقع أعمق من ذلك، بحيث صاحب هذا التحول و التغيير انقلاب وثورة في المفاهيم، ترتبط في الصميم بمفهوم الإنسان في حد ذاته، بتربيته وإعداده لمجتمع المستقبل ،لطبيعة العمل، للتواصل والإكراهات المتنوعة المصاحبة للعولمة الشاملة السياسية و الثقافية و الاقتصادية و الاجتماعية ،الخ. مجتمعات جديدة في عصر العولمة تقوم بشكل أساسي على البحث العلمي و التكنولوجيات المتجددة باستمرار .
لقد تمخض عن الانفجار المعرفي و العلمي، مجتمع جديد في سماته المختلفة ” مجتمع المعرفة ” وما يتضمنه من أبعاد أخرى كاقتصاد المعرفة و العالم الافتراضي، العالم الرقمي، الخ، ذلك بفضل تكنولوجيات الكومبيوتر، وصناعة البرمجيات، وما نتج عنها من ثورة على مستوى التواصل بمختلف أشكاله، تمثل في شبكات و مواقع التواصل المختلفة، بفضل الانترنيت، يقول “بيل جيتس” في هذا السياق إن الثورة في مجال الاتصالات قد بدأت لتوها وسوف تستغرق تطوراتها عدة عقود قادمة، وستدفعها إلى الأمام “التطبيقات” الجديدة، أي الأدوات الجديدة التي ستلبي غالبا حاجات غير متنبأ بها حاليا . وخلال السنوات القليلة القادمة، هناك قرارات كبرى يتعين على الحكومات و الشركات و الأفراد اتخاذها. (ص:90). كتب هذا في سنة 1995، و كل هذه التخمينات التي عرضها بيل جيتس أصبحت اليوم حقيقة معاشة .
إن ما يميز هذه الفترة من التاريخ هو ظهور هذه الوسائل والأساليب الجديدة التي يمكن بها تخزين المعلومات ومعالجتها، والسرعات المتزايدة التي يتم بها التعامل معها و استخدامها. إن المعلومات اليوم أصبحت رقمية، فهناك نسبة كبيرة مثلا من الوثائق أصبحت متاحة بشكل كامل رقميا و ليس كمادة مطبوعة ورقيا، مما سهل الاشتغال عليها بسرعة أكثر من الاشتغال على الوثائق الورقية و ما يترتب عن هذا من النقل الفوري للمعلومات و تخزينها و استرجاعها بسرعة فائقة. ففي النهاية سوف توفر لنا التحسينات المتوالية في تكنولوجيا الكمبيوتر و الشاشة كتابا الكترونيا شاملا خفيف الوزن أو ال”e-book” . وضع جديد ينم عن ميلاد مجتمع جديد، مجتمع المعرفة، الذي بفضل هذه الابتكارات العلمية و التكنولوجية يتميز بالتركيز على المعلومة و المعرفة و إنتاجها، مما يساهم بفعالية في تطور المجتمعات، على اعتبار أن المعرفة من أهم المكونات التي يتضمنها أي عمل أو نشاط إنساني فيه. إن المعرفة و الإبداع هما أساس مجتمع المعرفة، الذي من الواضح أنه يقوم على نوع خاص من التعليم يؤهل للاستجابة لمتطلبات الوضع الجديد في جميع القطاعات الاجتماعية والخدماتية، محليا و دوليا، من خلال تبادل المعلومات و نشرها. تعليم جيد يقوم على التفكير العقلاني و على النمو السليم للشخصية في مختلف أبعادها بشكل متوازن. تعليم يساعد على توفير عقلية الاهتمام بالبحث و التنمية، بإتقان ما يرتبط بالبرمجيات و الحاسوب و الانترنيت، مع القدرة على المنافسة و التنافسية محليا و دوليا، باعتبار إنسان مجتمع المعرفة أصبح بفعل شبكات التواصل الإلكترونية يعيش في قرية صغيرة، إن لم نقل في حجرة صغيرة، يتابع كل المستجدات العلمية و السياسية و الثقافية و المجتمعية و الفيزيقية في الحين دون اكتراث بالزمان و المكان، في مختلف أنحاء المعمور.
إن مجتمع المعرفة يتميز من خلال تجارب البلدان المتقدمة بتوفير تعليم جيد و عالي التكوين بواسطة بيداغوجية ملائمة و تجهيزات و أدوات تكنولوجية تستجيب لخصوصيات مجتمع المعرفة؛ بالتنمية و التحسين المتزايد للقوى العاملة المؤهلة للإنتاج و الابتكار و الإبداع، و ذلك للمساهمة الناجعة في استمرار التنمية بشكل مستديم؛ بتحويل و تجهيز مختلف المؤسسات في المجتمع إلى مؤسسات و منظمات ذكية، مع توافر مراكز معاهد للبحث العلمي المنفتحة على التمويل الخاص و المجهزة تكنولوجيا و الكترونيا تستجيب لعملية إنتاج المعرفة و توظيفها و تبادلها مع باقي المؤسسات و المنظمات و المختبرات كتجارب تغذي بشكل متواتر ودوري التجديد المستمر للعلم و المعرفة. إن مجتمع المعرفة هو في النهاية هو ذلك المجتمع الذي تسود فيه الثقافة العلمية بين أفراده، و ثقافة الابتكار و الإبداع ضدا على ثقافة الجمود والتكرار و التقليد المفضية إلى التخلف في كل شيء.
إن المجتمعات المتقدمة اليوم هيأت و أعدت إنسانا جديدا في مهارات تفكيره و أساليب عمله و أدوات اشتغاله وأبعاد شخصيته و جعلت منه بفعل تنشئتها و تربيتها فردا قادرا على التنافس و المنافسة المثمرة، مما بوأها درجات متقدمة على جميع الأصعدة.
إن هذا المجتمع الجديد يسائلنا في ذواتنا و هويتنا عربيا بشكل عام و مغربيا بشكل خاص، من حيث قدراتنا و إمكانياتنا الحالية لمواجهة تحديات مجتمع المعرفة؛ تساؤلات حول مضامين واقع تعليمنا و طرقنا التربوية والتنشئية السائدة في مؤسساتنا و جامعاتنا و معاهدنا البحثية و التكوينية؛ هل واقعنا التربوي بخصائصه المختلفة على جميع الأصعدة مؤهل لإعداد و تكوين هوية و شخصية الجيل الجديد، الذي سيواجه تحديات مجتمع المعرفة والعولمة و سيتحمل المسؤولية في مجتمع الغد؟
إن أي مجتمع يرغب في التطور و التقدم، يجد نفسه اليوم في عصر العولمة المعقد في حاجة ماسة إلى مشروع تنشئة اجتماعية و تربوية و تعليمية متناسق المكونات نسبيا، يهدف إلى تكوين الأجيال المقبلة و الحالية، بغرض تقوية سيرورة المجتمع و التمكين له على أسس متينة، يكون فيها الشباب باعتباره القوة و الرافد الأساسي في استشراف مجتمع جديد ينعم بخصائص التنمية الشمولية المبنية على اقتصاد المعرفة و المعلومة.
من المعروف أنه كلما تغير المجتمع وتعقد كلما ازدادت مؤسساته وتنوعت أساليب حياة سكانه، وتشابكت علاقات أفراده وجماعاته واحتاج الفرد فيه إلى فترة أطول من التعليم والتكوين، إن لم تكن هذه الفترة تمتد طيلة حياته كما هو معمول به اليوم في عدة مجتمعات قطعت أشواطا كبيرة ومعقدة من حيث التقدم العلمي والتكنولوجي . العصر الحديث يعتبر عصر الثورات التكنولوجية المتتالية والتغير العميق الذي شمل مختلف مجالات الحياة، تغير بلغ دروته فيما حققته الثورة العلمية والتكنولوجية من نتائج إيجابية في حياة الإنسان المعاصر، الذي أضحى يعيش في بيئة معلوماتية متطورة ومذهلة تفوق حدود الخيال، حيث اختزلت فيها المسافات بين المجتمعات على وجه الأرض، وتحول معها العالم إلى قرية صغيرة، بيئة قربت بين الشعوب وتكسرت من خلال آثارها الحدود الصلبة السياسية والاقتصادية والثقافية والمعرفية بين سائر أبناء البشر فيما يعرف اليوم باسم العولمة. فالعقل الإنساني برهن من خلال الثورة المعلوماتية المتمثلة أساسا في الأنترنيت والكمبيوتر على سيطرته النسبية على العوائق والسلبيات والتحديات التي تواجه الإنسان في طريقه إلى التقدم وتحقيق حياة أفضل.
كيف يمكن للشباب المشاركة في بناء مجتمع المعرفة؟ وما دور الدولة لجعل الشباب فاعلين في مجتمع المعرفة؟ وهل مؤسساتنا التعليمية تجاوزت مرحلة نقل المعرفة إلى مرحلة توطينها؟ وما المطلوب من جامعاتنا لتحقيق هذا الهدف؟ وما هي الأدوات الذهنية والوسائل التقنية لمواجهة الانفجار المعرفي الذي تفاقمت حدته يوما بعد يوم؟
يتبع